الجريمة الإلكترونية في الفقه الإسلامي

الجريمة الإلكترونية في الفقه الإسلامي



  لقد أدى ظهور الحاسبات الآلية إلى تغيير شكل الحياة في العالم، وأصبح الاعتماد على وسائل تقنية المعلومات الحديثة يزداد يوما بعد يوم، سواء في المؤسسات المالية، أو المرافق العامة، أو المجال التعليمي، أو الأمني أو غير ذلك، إلا أنه وإن كان للوسائل الإلكترونية الحديثة ما يصعب حصره من فوائد، فإن الوجه الآخر والمتمثل في الاستخدامات السيئة والضارة لهذه التقنيات الحديثة ومنها الجريمة الإلكترونية، فقد أصبحت خطرا يهدد العالم بأسره، إن خطر الجريمة الإلكترونية يكمن في سهولة تنفيذها مع شدة أثرها وضررها، فيقوم مستخدمها بعمله وهو في منزله، أو مكتبه، أو في مقهى، أو حتى من غرفته. 

ويتشابه تعريف الجريمة الإلكترونية مع تعريف الجريمة التقليدية حيث تعرف على أنها "إتيان فعل معاقب عليه أو ترك فعل مأمور به ومعاقب على تركه بحد أو تعزيز ، ويشمل المفهوم العام للجريمة كل معصية أو خطيئة مخالفة لأوامر الله أو نواهيه، سواء كانت هذه المعصية نتيجة سلوك، يمكننا أن نلمسه مادية أم كانت المعصية مستترة في النفس البشرية، وسواء كانت العقوبة المقررة لها دنيوية أم عقوبة أخروية. ويعرف الماوردي الجريمة بأنها "محظورات شرعية زجر الله تعالي عنها بحد أو تعزير "وقد عرف الفقهاء الجريمة وفقا لهذا المفهوم بأنها فعل ما نهى الله عنه وترك ما أمر الله به . 

وهناك تشابه أيضا بين عناصر الجريمة الإلكترونية وعناصر الجريمة التقليدية، حيث يمكن القول من خلالها بأن المكلف ارتكب محظورة شرعا إذا توافرت فيه العناصر الآتية:

١) لقيام الجريمة لابد من ارتكاب فعل يمثل الجانب المادي لها، ويعني بالفعل في مجال الجريمة السلوك الإجرامي أيا كانت صورته سواء كان إيجابية أو سليبة، ويتحقق السلوك الإيجابي بإتيان فعل منهي عنه، ويتحقق السلوك السلبي بالامتناع عن فعل أمر الشارع به.
٢) أن يكون الفعل غير مشروع وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، ويوصف الفعل بأنه غير مشروع إذا جاء مخالفة لأوامر الله تعالى أو نواهيه.
٣) يفترض في الجريمة أن يكون الفعل المحظور صادرة عن إرادة إنسانية. وذلك لأن الجريمة هي نتاج عمل إنساني يسأل عنها، ويتحمل تبعتها، فالإنسان فقط هو محل المسئولية. 
٤) يفترض في الجريمة أن يقرر لها الشارع عقوبة، سواء كانت العقوبة مقدرة أو غير مقدرة.
ه) الأهلية في المجرم وإلا لعدت من المسئولية التقصيرية لا الجنائية. 

ومن خلال ما تقدم، فلقد أصبحت الجريمة الإلكترونية هاجسا يخيف العالم الذي أصبح عرضة لهجمات المجرمين عبر الإنترنت الذين يمارسون نشاطهم التخريبي من أي مكان في العالم، وهذه المخاطر تتفاقم يوما بعد يوم، لأن التقنية الحديثة وحدها غير قادرة على حماية الناس من عمليات الجرائم الإلكترونية والتي سببت أضرارا جسيمة على الأفراد والمنظمات والدول. ولقد سعت العديد من الدول إلى اتخاذ التدابير المواجهة الجرائم الإلكترونية، إلا أن هذه الجهود قليلة ولا تزال بحاجة إلى المزيد من هذه الجهود المبذولة لمواجهة هذه الجرائم الإلكترونية، ويمكن تناول بعض نماذج الجرائم الإلكترونية من خلال منظور الفقه الإسلامي كما يلي: 

جرائم اختراق البريد الإلكتروني من منظور الفقه الإسلامي: 

يقوم المجرمون باختراق البريد الإلكتروني وهتك أسرار أصحابه والاطلاع على معلوماتهم وبياناتهم والتجسس عليها لمعرفة مراسلاتهم ومخاطباتهم والاستفادة منها في عملياتهم الإرهابية. 
فلقد نهى الله - جل جلاله - عن التجسس،ونهت الشريعة الإسلامية عن الاطلاع على أسرار الناس وهتك حرماتهم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم}"، واختراق البريد الإلكتروني هو خرق لخصوصية الآخرين وهتك لحرماتهم وتجسس على معلوماتهم وبياناتهم التي لا يرغبون أن يطلع عليها غيرهم. 

فالشريعة الإسلامية كفلت حفظ الحقوق الشخصية للإنسان وحرمت الاعتداء عليها بغير حق، وهؤلاء الذين يعتدون على بيانات الأخرين ومعلوماتهم عبر اختراق رسائلهم البريدية الإلكترونية آثمون لمخالفة أمر الشارع الحكيم ومستحقون للعقاب التعزيري الرادع لهم، ولا بد من إشاعة هذا الحكم بين الناس وتوعية المتعاملين بشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بخطورة انتهاك خصوصية الآخرين وحكم ذلك في الشريعة الإسلامية، وأن هذا الأمر مما استقرت الشريعة على تحريمه والنهي عنه، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على حفظ حقوق الآخرين وعدم انتهاكها، بل قد تنادت الدول إلى تجريم مخترقي البريد الإلكتروني لما فيه من ضياع للحقوق واعتداء على خصوصيات الآخرين وأسرارهم، ولاسيما إذا كان ذلك لاستغلالها في الجرائم الإلكترونية والعدوان على الآخرين . 

واستثناء من ذلك فقد يكون التجسس مشروعا في أحوال معينة كالتجسس على المجرمين، فقد لا يعرفون إلا بطريق التجسس، وقد أجاز الفقهاء التجسس على اللصوص، وطلبهم بطريق التجسس عليهم وتتبع أخبارهم، وكذلك يجوز التجسس في وعددهم وعتادهم ومحل إقامتهم وما إلى ذلك . 

وكذلك يجوز اختراق البريد الإلكتروني للمجرمين المفسدين في الأرض واللصوص وقطاع الطريق، لتتبعهم ومعرفة خططهم وأماكن وجودهم، لقطع شرهم ودفع ضررهم عن المسلمين وهذا موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بحفظ الدين والعرض والمال والنفس والعقل (؟). 

اختراق وتدمير المواقع الإلكترونية من منظور الفقه الإسلامي:

 يقصد بتدمير واختراق المواقع الإلكترونية الدخول غير المشروع على نقطة ارتباط أساسية أو فرعية متصلة بالإنترنت من خلال نظام آلي أو مجموعة نظم مترابطة شبكية بهدف تخريب نقطة الاتصال أو النظام، يستطيع قراصنة الحاسب الآلي التوصل إلى المعلومات السرية والشخصية واختراق الخصوصية وسرية المعلومات بسهولة، ويرجع ذلك إلى أن التطور المذهل في عالم الحاسب الآلي يصحبه تقدم أعظم في الجريمة الإلكترونية وسبل ارتكابها، ولا سيما وأن مرتكبيها ليسوا مستخدمين عاديين، بل قد يكونون خبراء في مجال الحاسب الآلي . ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ حقوق الآخرين وصيانتها، نهى الله عز وجل عن الاعتداء، وإن المواقع على شبكة المعلومات العالمية حق للآخرين لا يجوز الاعتداء عليه بأي وجه من الاعتداء، وتدمير المواقع نوع اعتداء فهو محرم ولا يجوز، وقد صدر من مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة سنة 1409ه بأن حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرقا، ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها.

 ومن خلال ما تقدم نستخلص أن الاعتداء على مواقع الإنترنت ممنوع شرعا من باب أولى، فإذا كان حق الاختراع والابتكار مصونة شرعا، فكذلك الموقع على شبكة الإنترنت مصون شرعة ولا يجوز الاعتداء عليه. ويعتبر تدمير الموقع من باب الإتلاف وعقوبته أن يضمن ما أتلفه، فيحكم عليه بالضمان. جرائم القذف والتشهير وتشويه السمعة بواسطة الإنترنت من منظور الفقه الإسلامي: تكثر حوادث التشهير والقذف في شبكة الإنترنت كأحد أنواع الجرائم الإلكترونية، فقد وجد ضعفاء النفوس في شبكة الإنترنت، وفي ظل غياب الضوابط النظامية والجهات المسئولة عن متابعة السلبيات التي تحدث أثناء استخدام الإنترنت، متنفسا الأحقادهم ومرتعا لشهواتهم المريضة دون رادع أو خوف من المحاسبة وقد قيل قديما "من أمن العقوبة أساء الأدب".
 والقذف مجرم شرعا، ونظرا لشناعة الجرم ومدى تأثيره السلبي على المجني عليه والمجتمع كونه يساعد على إشاعة الفاحشة بين الناس بكثرة الترامي به، فقد جعل عقوبته من الحدود والتي لا يملك أحد حق التنازل عنه ولا يجوز العفو عنها بعد طلب المخاصمة أمام القضاء، كما جعلها عقوبة ذات شقين الأول عقوبة بدنية بجلده ثمانين جلدة
وشدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة القذف حيث اعتبرها من الموبقات فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله، وما هن؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، واكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". 
ولا تعاقب الشريعة على القذف إلا إذا كان كذبة واختلاق فإن كان حقيقة واقعية فلا جريمة ولا عقوبة .

 جرائم الاعتداء الإلكتروني على الأموال من منظور الفقه الإسلامي: 

من الكليات الكبرى التي جاءت الشريعة الإسلامية بالمحافظة عليها حفظ المال، ونهت عن الاعتداء عليه، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فكان مما قال: (إن الله حرم عليكم يماءكم وأموالكم كرمة لكم هذا، وكرمة شهركم هذا، وكرمة يومكم هذا) . 
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا هل بلغت؟ قالوا نعم فقال صلی الله عليه وسلم الله اشهد"، ولذلك حرمت الشريعة الإسلامية السرقة، وأوجبت على السارق العقوبة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا). 
ولكن هل الاعتداء على الأموال عن طريق الجريمة الإلكترونية يوجب الحد، هناك شروط لإقامة حد السرقة وهي: 

أولا: أن يكون السارق مكلفة، وأن يقصد فعل السرقة، وأن لا يكون مضطرة إلى الأخذ، وأن لا تكون شبهة في استحقاقه ما أخذ(ة).

ثانيا: أن يكون المسروق منه معلومة، وأن تكون يده صحيحة على المال وأن يكون معصوم المال، فقد ذهب الجمهور إلى درء الحد عن السارق إذا كان المسروق منه مجهولا، بأن ثبتت السرقة ولم يعرف من هو صاحب المال لأن إقامة الحد تتوقف على دعوى المالك أو من في حكمه، ولا تتحقق الدعوى مع الجهالة، وذهب المالكية إلى إقامة الحد على السارق متى ثبتت السرقة دون تفريق بين ما إذا كان المسروق منه معلومة أو مجهولا لأن إقامة الحد عندهم لا تتوقف على خصومة المسروق منه . 

ثالثا: أن يكون المال المسروق متقومين، وأن يبلغ نصابة، وأن يكون محرزة فلو سرق ما لا قيمة له في نظر الشرع فلا قطع عليه،كسرقة الخنزير والخمر، والميتة، وآلات اللهو، والكتب المحرمة. وإن كان المسروق أقل من النصاب فلا قطع، على اختلاف بين الفقهاء في مقدار النصاب ، ولا بد أن يكون المسروق محرزة، والحرز: الموضع الحصين الذي يحفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعد صاحبه مضيعة له بوضعه فيه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن حد السرقة لا يقام إلا إذا أخذ السارق النصاب من حرزه لأن المال غير المحرز ضائع بتقصير صاحبه في حفظه). 

وبعد هذا الاستعراض لما ذكره الفقهاء من شروط وضوابط الجريمة السرقة التي باكتمالها يجب قطع يد السارق، وتطبيقها على الاعتداء على الأموال بطريق الحاسب الآلي نجد أنه وإن اتفقت جريمة السرقة التي تتم عن طريق الحاسب الآلي مع جريمة السرقة بالطرق العادية في نتائجها إلا أن هناك أمور تختلف عنها ولا بد من توافرها في السرقة بطريق الحاسب الآلي، فإن من الأمور الجديرة بالبحث ولها أثر في الحكم مدى الضمانات الفنية والحماية النظامية للتعاملات التي تتم بطريق الحاسب الآلي ، فإن هذه الضمانات والحماية النظامية كلما قويت دلت على وجود الحرز الذي هو شرط من شروط اكتمال جريمة السرقة، وكذلك ربما تمت السرقة بسبب إهمال مالك المال المسروق في حفظه بالطرق الفنية المعروفة في مجال الحاسب الآلي والأخذ بالسبل الواقية من الاعتداءات الإلكترونية على ماله، وأيضا ربما صاحب السرقة تخريب أو إتلاف أو تزوير، ومما يؤثر في الحكم أيضا عدم مطالبة مالك المال المسروق بماله وذلك بسبب ما يترتب عليها من إساءة لسمعته وفقد الثقة به، وهذا هو الذي يدعو بعض البنوك والمؤسسات المالية إلى الإحجام عن الإبلاغ عن السرقات التي يتعرضون لها، فضلا عما يصاحب هذه الاعتداءات من مجاهرة ومغالبة فإن معظم هذه الاعتداءات المالية الإلكترونية تتم عن طريق كيانات منظمة تهدد أمن واستقرار واقتصاد المجتمع، وهذا ما دعا بعض الكتاب إلى اعتبار هذه الجرائم من الحرابة والإفساد في الأرض، فإن هذه الجرائم أصبحت جرائم دولية بعد انتشار شبكة الإنترنت، فإذا كان الجاني ذا قوة وتدبير وتنظيم مما يتعذر معه الاستغاثة من المجني عليه، وقام بالتخريب أو إزالة للمواقع وسرقة للأموال، وهو الغالب في الجريمة الإلكترونية، فإن هذه الجرائم تدخل في جرائم الحرابة ويطبق عليها ما يطبق على جرائم الحرابة)، وهذا الموضوع يتطلب بحث مستقلا بذاته. ومن خلال ما تقدم نستخلص عظمة الشريعة الإسلامية وكمالها وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان وسعة الفقه الإسلامي ورحابته وقدرته على مواكبة مستجدات العصر، ولذلك لا بد من نشر الوعي بأهمية حماية المعلومات الخاصة بالفرد، سواء على الإنترنت أو على غيرها من الشبكات الأخرى، وتشجيع ما يسمى بالأمان الإلكتروني.